قالت خالتي:
أما أنا فقد كانت معاناتي مضاعفة، إذ إنني حامل في الشهر الثامن، وكان عليّ
أن أحمي نفسي، والجنينَ الذي كان يتحرك في بطني. قال زوجي: هيا استعدي
للخروج بسرعة، فالأقارب والجيران هربوا إلى الجبال؛ ليختبئوا في المغاور.
وضعتُ في الحقيبة كمية من الطعام وزجاجات ماء، ولاحظتُ أن زوجي كان محتارا،
فسألته: بماذا تفكر؟. أجاب: ماذا أفعل بذهبك؟، هل أحمله معي؟ أم أخبئه في
البيت؟. أخشى أن يتعرض بيتنا للسرقة، ولكنني لا أعرف في الوقت ذاته
المفاجآت التي تنتظرنا، فالمستقبل مجهول!!. قلت له: ما رأيك أن نُبقي الذهب
في الخزانة؟. أجاب: لا. ورأيته يجمع الذهب في كيس، ويدفنه في رماد
الطابون، ثم خرجنا من البيت مسرعيْن والدموع تملأ عينيّ.
سرنا
باتجاه الغرب، وصعدنا جبلا مليئا بأشجار اللوز والزيتون، إلى أن وصلنا
مغارة مزدحمة بالناس. قلت: لن أدخل، وسأظل هنا تحت شجرة الزيتون. بحث زوجي
عن كومة من القش الناعم، ووضعها على الأرض، وجلسنا عليها. وتوزع الحاضرون
تحت الأشجار، ولكنهم كانوا قريبين من بعضهم؛ طلبا للأمن والأمان. وتصاعدت
أصوات الأطفال وصرخاتهم؛ مطالبين بالطعام والشراب. وتقاسم الأهالي ما
معهم من زاد وشراب ، ثم راحوا يحلبون بقرة كبيرة كانت ترعى بالقرب منا ،
ويسقون الأطفال.
كنا من موقعنا المرتفع، نراقب شارع القرية
الرئيس، وبيوتها وأزقتها، ونسمع أزيز الرصاص وهدير الطائرات، وهي تجوب
الفضاء، وتغير على بيدر البلد، فتشعل صواريخُها النار بحلل القمح والشعير
والعدس التي كان الفلاحون يستعدون لدرسها . توقعنا أن نلاقي حتفنا قريبا،
ووضعتُ يدي على بطني، فشعرت بانتفاضة قوية ، وكأنّ الجنين المنتظر يعبر عن
احتجاجه، وغضبه على هذا الواقع الأليم الذي أجبر أمّه على التشرد ومغادرة
البيت الآمن. قلت في نفسي: ما المستقبل الذي ينتظرك، أيها الطفل الحبيب؟!!.
هل ستنجو وتعيش، أم أنك ستلاقي حتفك مع أمك وأبيك؟!. وحينما بزغ الفجر،
رأينا سيارات المحتلين وعرباتهم تدخل القرية، وتتجول في طرقاتها،فازداد
خوفنا ورعبنا. أمضينا ذلك النهار الكئيب، وتلك الليلة المشئومة، ونحن
ننتظرُ تحت الأشجار.
وفي صباح اليوم التالي سمعنا رجلا ينادي
بأعلى صوته: يا أهل البلد، عودوا إلى بيوتكم!!. شك المواطنون أولا، ولكنهم
تشاوروا فيما بينهم، واتخذوا قرارا جماعيا بالعودة إلى القرية، مهما كانت
النتائج.
عُدنا إلى قريتنا معا، وذهبنا إلى بيتنا الحبيب،
فوجدناه صامتا حزينا. أسرع زوجي نحو الطابون الهامد فوجد صرة الذهب في
مكانها. نفض الرماد عنها، وحمدنا الله على السلامة.
وأنهت خالتي
قصتها بالقول: الحمد لله أننا اتجهنا غربا، ولم نبتعد عن أرضنا الحنون، ما
أشدّ مرارة التشرد والرحيل ألقسري عن الوطن!! ، وما أجمل العودة إلى
البيت!!. ... يتبع