سألَت سناء :
ألا تذكر ما جرى من أحداث ، بعد عودتكم إلى البيت ؟ . أجبت : لا أذكر
تفاصيل كثيرة عن الأحداث التي جرت في تلك الأيام ، ولكنني أتذكر أن جنود
الاحتلال جاءوا إلى قريتنا ، وتجولوا في حارتنا ، فيما كان المواطنون
ملتزمين في بيوتهم ، لا يغادرونها . وذات يوم ، دخلت مجموعة من الجنود
الغرباء بيتنا ، وكانوا يلبسون قبعاتٍ على رؤوسهم ، ويحملون سلاحا كثيرا ،
وكان أحدهم يحمل أوراقا وأقلاما ، ويكتب على الورق . وكانوا يسألون أبي عن
أسماء أفراد أسرتنا ، وعلمت فيما بعد أنهم يريدون إحصاء المقيمين في
القرية ، والغائبين عنها . وقد كان أخوتي موجودين معنا ما عدا اثنين ، الأخ
الأكبر كان يعمل في عمان ، والأخ الأصغر كان يدرس في جامعة دمشق ، وقد حرم
المحتلون أخي الأول من العودة إلينا ، أما الثاني فقد التحق بالعائلة بعد
انتهاء دراسته ، وحصوله على ما سمي ( لم شمل العائلات ) .
وبعد
عدة أيام ذهبت مع أبي إلى حقلنا الذي كان مزروعا بالبطيخ ، فوجدنا ثمار
البطيخ قد هُشمت، تحت عجلات جنازير الدبابات . ضرب أبي كفا بكف وقال بحزن :
جازى الله من كان السبب !! . وذهبت ذات يوم إلى المدينة المجاورة ، فرأيت
هناك جنودا غرباء ، يتجولون على أقدامهم ، وفي سيارات متجهمة غريبة الأشكال
والأنواع والأحجام ، فشعرت بالخوف ، والتصقت بأبي الحنون الذي احتضنني ،
وقال لي مشجعا : لا تخف .
سأل عمرو : قلت بأن جدك ظل في البيت ،
ولم يهرب إلى الجبال ، فلماذا ؟! . أجبت : كان جدي مقتنعا بأن الهروب لا
يمنع القدر المكتوب ، وفضل البقاء في البيت ؛ لحمايته والثبات فيه بدلا من
التشرد والضياع . كان يقول : لا يجوز للإنسان أن يترك بيته ويهاجر، ويكفي
ما حدث لنا عام ثمانية وأربعين ، وعلينا أن نستفيد من أخطائنا .
قال أحمد : حدثنا عن جدك وذكرياتك معه . عدت بذاكرتي سنوات طويلة إلى
الوراء ، واستحضرت صورة جدي . كان لون بشرته شبيها بلون حبوب القمح التي
كان يذريها في البيدر ؛ ليفصلها عن التبن . جبهته مغضنة ، والتجاعيد تملأ
وجنتيه ، وما أجمل وجهه حينما كانت تنفرج أساريره ، ويضحك بصوت عالٍ !! .
كان ينهض من نومه كل يوم مبكرا ، فيصلي الصبح ، ويفطر ثم يركب حماره ،
وينطلق إلى أرضنا الجبلية ، حيث يمضي بعضا من الوقت، في استصلاح الأرض،
وزراعة الأشجار ، وتقليمها ، وإزالة الأشواك والأعشاب من تحتها، بفأسه الذي
ما زلنا نحتفظ به حتى الآن . وبعيد الظهر كان يعود إلى البيت، والخُرج
مليء بالأعشاب والخروب واللوز ونبات الزعتر والميرمية والزعيت ماني ، وما
أن يصل إلى البيت ، حتى يطلب الإسراع في غلي الشاي . وما ألذ شرب الشاي مع
جدي ، وما أعذب مذاقه !! .
وفي ظهيرة أحد الأيام الصيفية
الحارة ، كان جدي نائما في عقده الواسع ، فتوجهت نحوه ؛ لأسأله عن قبعتي
القشّية التي كنت أحمي رأسي فيها من حرارة الشمس ، ولكنه لم يرد عليّ . صحت
: جدي .. جدي . ولكنه لم يجب ندائي ، بل اكتفى بهز رأسه ويده !! . أسرعت
نحو أبي وصرخت : أبي .. أبي ، جدي لا يتكلم !! . نهض أبي بسرعة ، وتوجه نحو
جدي ، فوجده مريضا ، وغير قادر على النطق . أحضرنا الطبيب ، وقدم له
الدواء ، ولكن الطب لم يتمكن من إعادة العافية والصوت إلى جدي الحبيب .
بكيت ، ولم أعد أسمع صوته ، وكان يكتفي بالنظر إلينا ، وحينما يسمع نهيق
حماره ، كان يهز يده ، فيعرف أبي أن الجد يطلب منا سقاية الحمار أو إطعامه ،
فربما كان جائعا أو عطشان !! . وظل جدي مريضا إلى أن وافاه الأجل المحتوم .
وكم عز ّ علينا فراقه ، وتألمنا لرحيله الأبدي !! .
يتبع