وأثناءَ حديثنا
زارنا جارُنا أبو حسان، رحبنا به، وقال له أحمد: وأنت يا عمي، ماذا تتذكر
عن حزيران عام سبعة وستين؟. أجاب أبو حسان، وقد راق له أن يسرد قصته على
مستمعين يرغبون في الإصغاء: كانت أياما عصيبة ومليئة بالتوتر والقلق
الشديد. لم أكن موجودا في قريتنا عندما بدأت الحرب. كنت شابا في العشرين من
عمري، وأعمل في الأردن، وأتابع الأخبار القادمة من فلسطين باستمرار. وكم
آلمني نزوح أعداد كبيرة من الناس عن أرض الوطن. كنت أذهب يوميا إلى أماكن
تجمع النازحين؛ علني أجد أحدا من أبناء قريتي، فأسأله عن أحوال أهلي وبلدتي
الحبيبة.
التقيت بأشخاص كثيرين من القرى المجاورة، ولكنني لم
أجد أحدا من بلدي. وبعد عدة أيام التقيت بشخصٍ أعرفه من قريتنا. سلّمت
عليه، وعانقته بحرارة، وسألته متلهفا: هل أنت قادم من فلسطين؟ وهل كنت في
قريتنا عندما احتُلّت؟. هز رأسه بحزن: نعم . سألته بلهفة واستعجال: قل لي
بسرعة، ماذا حدث ؟!!. هزّ رأسه بأسف، وقال: ماذا سأقول لك عن قريتنا؟!. لقد
هدموها، ولم يبق حجر فوق حجر!!، أما الناس، فمنهم من هرب، ومنهم من
استشهد، ومنهم من اعتُقل... لم يبق في القرية إنسان ولا طير ولا حيوان!!.
سألته: وكيف حدث هذا التدمير الرهيب؟!. أجاب: لقد هجمت علينا الدبابات من
مرج ابن عامر، وأخذت مواقع هجومية لها على شارع جنين حيفا، وبدأت تقصف
البلد قصفا شديدا ومتواصلا.... !!.
تراخت ساقاي، ولم أعد
قادرا على الوقوف، فسقطتُ على الأرض، خائرَ القوى، محطمَ القلب. لملمتُ
بقايا قوتي، وعدتُ إلى بيتي محزونا، والعتمة تملأ الفضاء، فيما كانت تتراءى
في خيالي الصورة المرعبة التي رسمتها كلمات الرجل لقريتي الغالية.
بعد عدة أيام، ذهبتُ إلى محطة الحافلات الرئيسة؛ لأستطلع الأخبار،
وأستوضحَ الأمور أكثر، وإذ بي ألتقي وجها لوجه بصديق لي من القرية ، قلت
له: هل صحيح أن قريتنا دُمرت؟!. قال: لا ، هذا خبر عار عن الصحة تماما.
لقد قدمت قبل قليل من هناك؛ لأحضر أخي، وأعود ثانية. ولم يستشهد إلا شاب
واحد، ولم تُهدم إلا بعض الأسوار والجدران في الأزقة الضيقة؛ بسبب تقدم
الدبابات. وأهلك والقرية كلها بخير، وإذا أردت العودة، فعد معنا، قبل أن
يغلق المحتلون الحدود. سُررت كثيرا بهذه الأخبار، وقلت له: شكرا لك، لقد
طمأنتني بعد قلق. وسأعود معكم.
كنت مشتاقا للأهل والأحبة، و مستعدا للعودة إلى الوطن، ولو مشيا على الأقدام ليلا أو نهارا.
وفي صباح اليوم التالي، كنت مع ثلاثة آخرين من أبناء القرية، قد ركبنا
سيارة متوجهة إلى الأغوار. كان نهر الأردن مليئا بالمياه المتدفقة، ولكن
قائد رحلتنا المجرب كان يعرف المنطقة التي يمكن أن نعبر النهر من خلالها.
مررنا بسلام إلى الضفة الغربية. وواصلنا المسير مشيا على أقدامنا. عطشنا
وجُعنا وفقد زميلٌ لنا حذاءه في النهر، ومشى حافيا، إلى أن وجدنا راعيا،
فطلبنا منه المساعدة، فسقانا وأطعمنا، واستضافنا في بيته وأحضر حذاء
لزميلنا، فشكرناه كثيرا، وتابعنا مسيرنا عبر الأغوار والوديان والجبال،
إلى أن وصلنا مشارف جنين ليلا. وكم كانت سعادتنا كبيرة حينما عدنا إلى
وطننا، ووجدنا قريتنا وأهلنا وأحبتنا صامدين في بيوتهم وأرضهم، رغم الحزن
المخيم على الوطن كله. يتبع