بـقـلــــم : نمر عاروري
من قريته "ذكرين" المدمرة عام 1948بدأت حكايته. الكاتب والروائي الفلسطيني الكبير رشاد ابو شاوّر هجّر من قريته ولما يتجاوز عمره 6 سنوات بعد. خبر مبكرا فقدان الأحبة واللجوء والمنافي والتنقل حافيا باسماله البالية في البراري بحثا عن ما يسد رمقه من الأعشاب البرية في جبال واغوار ما تبقى من طنه. شاهد ثلج بلاده لأول مرة في مخيّم "الدهيشة" امام الخيمة المتهالكة. للوهلة الأولى فرح الصبي "رشاد" بالثلج وببياضه الأخآذ ظانا انه رفيق وحبيب. لم يكن ثلج "بيت لحم" كذلك واكتشف "رشاد" قسوة برودته التي تجعل الفرائص ترتعد. على ابواب "المهد"، صرخ "طفل الخيمة" من لسعة البرد كطفل ولدته امه للتو ، ليستله احدهم منه محذرا اياه من الثلج. يومها اكتشف هذا الطفل الفلسطيني المشرد وبحسه المرهف، ان ليس كل شيء ابيض هو صنّو للجمال والطهارة والرحمة.
بالأمس في مدينة دورتموند الألمانية استمعنا له، بدى لي هذا الفلسطيني الأسمر "الشقي" الذي اصبح على ابواب الشيخوخة البيولوجية، شابا عظيم القوة ورأيت فيه عظمة وقوة شعب فلسطين الذي ما ان يقع، حتى ينهض كالعنقاء من تحت الرماد. منذ قرآتي لروايته "آه يا بيروت" قبل سنين طويلة لم تغادرني صورة الجرأة والنقد اللآذع الذي خطه "رشاد" لبعض ما كنا نعتقد انه مقدس ولا يجوز الحديث عنه او المساس به.
كيف لهذا الفتى الفلسطيني صديق ناجي العلي ان يترك "الشقاوة"، وما معنى الحديث عن ثورة الشعب الفلسطيني وتفرده في الوعي النابع من نكبته ومعاناته العظيمة، اذا لم ينجب أمثاله وامثال ادوارد سعيد وزكريا محمد وناجي العلي وتمام الأكحل وعبد الباري عطوان ونبيل علقم وغيرهم كثيرون، لا يجاملون ولا يصالحون!
معهم وبهم ندرك ان الثقافة هي قلعة الشعب الاخيرة في زمن انهيار منظومة القيّم الوطنية، زمن اصبح فيه شعب فلسطين صاحب اطول ثورة في التاريخ المعاصر رهينة الانقسام البغيض وصدقات الدول، وبعض كبار كتابه ومثقفوه منسيون يعانون الفقر والفاقه، ويسلم بعضهم الروح في ردهات المستشفيات دون علاج في انتظار موافقة تأتي متأخرة من احدى الجهات الرسمية. حرموا حتى من سرير في مستشفى يفارقون الحياة فيه بكرامة تليق بقلاع وطنية حافظت على الذاكرة الجمعية لشعبهم وحرضته على البقاء والاستمرار، كل بطريقته وحسب اجتهاده وسبل ابداعه.
حمل "رشاد" معه في زيارته الى دورتموند مجموعة من رواياته التي استهلكت عقله ومداد قلمه وسنوات عمره، وتركها وديعة لمن بعده لتكون نواة لمكتبة شعبية فلسطينية في احدى بلاد الشتات، لينهل منها الكبار وليصل مضمونها للصغار لتبقى فلسطينه التي عشقها وكتب فيها اعذب الكلام واحيانا اقساه، جريئة شابة رشيقة القوام جميلة المحيا واثقة الخطى قوية الحضور.
الكاتب والروائي رشاد ابو شاوّر صاحب رواية "الرب لم يسترح في اليوم السابع" التي استهلكت 10 سنوات من عمره ورواية "العشاق" التي صنفت ضمن اروع 100 رواية عربية، ترك لمستمعيه في مدينة غوتنبرغ في السويد وفي مدينة دورتموند في المانيا، رسالة بسيطة المضمون، عظيمة الدلالة، مخاطبا اياهم: ايها "المعذبون في الأرض" توحدو، كونوا اقوياء ولا تتركوا وعيكم عرضة للكي بالنار والفسفور الأبيض ولا بالخطاب السياسي المتهافت على ابواب الدول وممالك الطوائف. ايها التائهون هاكم "فردوسكم المفقود" و "ارض ميعادكم" على مرمى البصر والحجر وفي حكايات الجدّات ورنة اللحن الحزين واشعار عبد الرحيم محمود وروايات غسان كنفاني ولوحات سليمان منصور وروعة ثوّب "ترمسعيا" المطرز.....وليس اخيرا في بريق عيني طفل من "ذكرين" لم يولد بعد!!