قالت سناء : ذكرت يا أبي أن أمك وجدتك وأختك عُدنَ إلى البيت سالمات ، بعد
قلق جدي عليهن ، وخوفه الشديد من تعرضهن لمكروه في الحرب . فهل لك أن توضح
لنا الأمر أكثر ؟. قلت : نعم . عندما كبرت كنت أستمع لأحاديث الكبار ،
وذكرياتهم عن حزيران ، وسردهم لحكاياتهم والمشاهد التي رأوها في الواقع ،
أو تلك التي نسجتها خيالاتهم وأوهامهم وتصوراتهم . تعرفون أن العربي يحافظ
على عِرضه وشرفه ، وهذه قيمة مجتمعية رائعة وأصيلة ، ولكنَّ هنالك أناسا
يفكرون بطريقة خاطئة ، فيبررون رحيلهم ، وهروبهم عن أرضهم ، بالحفاظ على
العِرض ، ونسوا أن الأرض والعِرض لا ينفصلان ، وأن شرف الإنسان يكمن في
المحافظة عليهما ، والدفاع عنهما معا ، والتضحية من أجلهما .
أعود إلى سؤالك ، وأقول : في الحرب تكثر الشائعات ؛ بسبب الجهل والخوف .
وما أن عدنا إلى بيتنا ، حتى جاءنا قريب لنا ، عزيز علينا . قال لأبي،
والحزن بادٍ على محياه : والله ، يا خالي ، لا أعرف كيف أقول لك هذا الخبر
...!! . أجابه أبي : لا تتردد . قل . قال قريبنا : وأنا هارب في الوعر ،
وأتنقل من وادٍ إلى جبل، رأيت جثثا كثيرة لأهالي قريتنا ملقاة هنا
وهناك..و... من ضمنهم زوجتك وبنتك و... . صرخ أبي : أأنت رأيت بعينيك ؟ .
أجاب مؤكدا : نعم . بعينيّ هاتين . وأشار لعينيه . وما أن أتم كلامه ، حتى
رأينا أمي وجدتي وأختي قادمات بسلام نحو البيت من منعطف قريب .
صاح
أبي فرحا مستبشرا : تقول يا رجل رأيت . انظر ها هن قادمات دون أن يصيبهن
مكروه !! . قال قريبنا : الحمد لله على السلامة ، لا أدري ماذا حدث معي ،
هل أنا عاقل أم مجنون ؟ . هل أنا نائم أم صاح ٍ ؟! .
ضحك
الحاضرون جميعهم ، وانهمكوا بالترحيب بالقادمات ، وهنئوهن بالسلامة ، وأكدن
أنهن لم يتعرضن لأي أذى . ودخل الأهل والأقارب إلى بيتنا ، وراحوا يتندرون
على قريبنا ، ويضحكون ، فيما استقبل ضحكاتهم بروح من الدعابة والمرح ،
وقال : إذا أردتم أن تضحكوا أكثر ، فاستمعوا إليّ . قال الحاضرون : احك ،
وكلنا نستمع .
قال قريبنا : حينما بدأت الحرب ، لم يكن قد مضى
على زواجي عام ، وقد قلت لزوجتي : أنا خائف عليك، وعلى طفلنا الرضيع ،
وأخشى أن يعتدي عليكما المحتلون ، فما رأيك أن أتخلص منكما ؟ . فقالت زوجتي
: يبدو أن الخوف أصابك بالتهور والجنون . كبِّر عقلك يا رجل . وتوكل على
الله . نحن لسنا أحسن من الناس ، وما يصيبهم يصيبنا . قال الحاضرون : الحمد
لله أن زوجتك أعقل منك . أجاب وهو يبتسم : أي والله ، زوجتي أثبتت أنها
أعقل مني .
قالت أمي : شر البلية ما يضحك . أنصتوا إلى هذه
الحكاية . بينما كنا مختبئين في المغارة ،نساء ورجالا وأطفالا ، دخل علينا
رجل خائف مع زوجته وأطفاله الصغار ، وكان هنالك قِنٌ للدجاج في المغارة
الواسعة ، فما كان من الرجل إلا أن فتح باب القن، وراح يدفع زوجته وأطفاله
إلى داخله ، وسط ذهول الموجودين . ضحك الحاضرون وعلقوا قائلين : وهل سيوفر
قن الدجاج الأمن والحماية ؟! . قال آخر : عثرت، وأنا هارب ليلا على صخرة
تحتها فجوة أدخلتُ جسمي فيها ، واختبأت حابسا أنفاسي ، ومرت ساعة من الزمن ،
وإذ بخطواتٍ ثقيلة تدب على الصخرة ، تجمّدت في مكاني ، وقلتُ في نفسي :
سأودع روحي بعد قليل ، وتشهّدتُ ، ثم تبين لي بعد ذلك أن حمارا كان يتحرك
بالقرب من المكان !! .
وقص آخرُ مفتخرا : أنا لم أكن خائفا ،
وقد تسللتُ أكثر من مرة نحو بيتنا ؛ لإحضار الطعام والشراب . وتنحنح خالي
وقال : تعرفون أن بيتنا يطل على الشارع الرئيس للقرية ، وبينما كنت جالسا
في العقد ، وأستمع للإذاعة التي كانت تصدح بالأناشيد الحماسية ، والبلاغات
العسكرية ، سمعت صَخَبا وخطواتٍ تدبّ في الشارع . فتحتُ الباب وإذا بجنودٍ
مسلحين ، فحسبتهم إخوانا لنا فصحت : عاش النشامى .. الله ينصركم !! . فما
كان من أحدهم إلا أن صرخ بي بلهجة غريبة: روخ للبيت ...!! . امتقع وجهي
بالسواد ، وجفّ حلقي ، وأغلقتُ الباب ، وعدتُ بأقدامٍ خائرة إلى العقد،
والمذياع الذي كان يواصل الإعلان عن الانتصارات الوهمية ، وبث الأناشيد
الحماسية . أغلقتُ المذياع ، ورحت أستعد لمواجهة الحقيقة المرة التي رأيتها
بعينيّ !! . يتبع.