تقول سلمى:
كنتُ طفلةً في الثانيةَ عشرةَ من عمري. أذكرُ ذلك اليومَ الحز يرانيّ ،
والأيامَ التي تلته جيدا، و ما تر سّخت في ذاكرتي من أحداثٍ لا تمّحى.
كانتْ أمّي قد أعدّت وجبة العدس في الطابون، وطلبتْ مني إرسالَ هذه
الوجبة الشهية إلى أبي وإخوتي الكبار الذين كانوا يدرسون العدس في البيادر .
ذهبت إلى هناك، ولم أجد أحدا. عدت ُُمسرعة إلى البيت، لا سيما وأنّ بعضَ
الناس الذين التقيتُ بهم قالوا: الحرب بدأت، أسرعي إلى بيتك.
قلتُ لأمي: لم أجدْ أبي وأخوتي ، وأعلمتُها عن الحرب. رأينا طائراتٍ تحومُ
في الفضاء، وسمعنا أزيزَ الرصاص قريبا من القرية. أمسكتْ أمي بأيدي إخوتي
الصغار، وحملتُ أختي الصغيرة الرضيعة، وأغلقنا البيت وخرجنا، مع أقاربنا
وجيراننا، متوجهين صوب مغارة في الجبل المقابل.
كانت المغارة
التي لجأنا إليها مليئة بالرجال والأطفال والنساء. في لحظات الهدوء كان
الأطفال يلعبون في الخارج، وحينما يسمعون هديرَ الطائرات كانوا يُسرعون
عائدين إلى المغارة ذاتِ الباب الواسع. وكان الرجال يغلقون مدخلها بالصخور
الكبيرة؛ خشيةَ القذائف.
لم ننمْ تلك الليلة، فقد كانت أمي
مشغولةَ الذهن وقلقة على أبي وأخوتي الثلاثة الغائبين. كانت تتساءل: ماذا
جرى لهم؟! . مَنْ رآهم؟!. أين باتوا ليلتهم؟. وأردفتْ تقول: عندما يشقشقُ
النهار سأبحث عنهم؛ حتى أجدَهم.
في الصباح، أودعنا إخوتي
الصغار، عند خالتي أم محمد، وذهبت مع أمي إلى القرية، كنا نمشي بحذر، وفي
زاوية الشارع رأينا سيارات المحتلين فابتعدنا عن الطريق، وواصلنا السير عبر
البيوت، إلى أن وصلنا حارتنا التي كانت موحشة؛ بسبب غياب أهلها، ودخلنا
بيتنا؛ علنا نجد بقية أسرتنا، ولكننا لم نجد أحدا. كنا نقتني ثلاث بقرات،
فوجدناها قد قطّعت الحبال والتجأتْ إلى ألمتبن؛ بحثا عن الأمان والغذاء .
وكانت تعاني من العطش الشديد. ركزت البقرات عيونها علينا، وكأنها تتساءل:
أين كنتم؟ ولماذا تركتمونا وحدنا في البيت؟. لا تغادروا...!!.
غادرتُ البيتَ مع أمي بعد أن أسقينا البقرات؛ لمواصلة البحث عن أبي وإخوتي
الثلاثة،في المغارات التي نعرفها في أطراف القرية، وفجأة لمَحنا شيخا
كبيرا، فسألناه وأجابنا وهو يشير بيده: هنالك مغارة فيها ناس كثيرون،
اسألوهم. صاحت أمي: يا ناس، من رأى منكم زوجي وأولادي؟. وفجأة سمعنا أخي
الكبير يجيب: ها أنذا موجود يا أمي مع أخي ، ولكنني لا أدري أين ذهب أبي
وأخي الأصغر.
احتضنتهما أمي، وانطلقنا معا إلى المغارة. ومرّت
ساعاتٌ صعبة وقاسية، ولم يلتئمْ شملُ أسرتنا، إلا بعد العودة النهائية إلى
البيت. حيث علمنا أن أبي كان شرق القرية، فيما كان أخي الصغير مرافقا لعمي
أبي عدنان الذي اصطحب معه مجموعة كبيرة من الأطفال، وحافظ عليهم، ورعاهم
كأولاده. وأخرجت سلمى من صدرها تنهيدة حزن وقالت: أتمنى أن لا تعود تلك
الأيام الحزينة،وأن تنتهي الحروب وأن نعيش في وطننا أحرارا بأمن وأمان
وسلام . يتبع.