خلال إحدى عشرة دقيقة، شاهد العالم يوم 20/11/2015 شريطا مصورا لعملية التحقيق مع الطفل الأسير الجريح أحمد مناصرة 13 عاما، انفجر الولد والمشاهد والشريط، تحت ضغط المحقق وأساليب التهديد والوعيد والشتائم والترهيب التي مارسها بحق طفل صغير من أجل انتزاع اعتراف منه.
ما لم يحتمله الكبار، وقف المحقق الاسرائيلي (موشيه كوهن) أمام هذا القاصر المصاب، والذي هشم الجنود والمستوطنون رأسه عند اعتقاله، دهسوه وضربوه، رقصوا واحتفلوا حول دمه النازف، داعين الى اعدامه وقتله.
لقد نجا أحمد مناصرة من الموت المستباح في شوارع القدس عندما لاحقوه وطاردوه وعذبوه، لكنه لم ينج من محاولات سحق طفولته وبراءته أمام هذا المحقق كثير الصراخ، المتوتر، المريض، والذي يمارس الخنق والتعذيب النفسي على هذا الطفل...كان المحقق يتعذب لأن مناصرة لازال أمامه حيا.
أحمد مناصرة لم يعد طفلا منذ الآن، هكذا أراد المحققون وضباط وقضاة اسرائيل، شرعوا قانونا لأجل الحكم عليه وإبقائه في السجن، وان لم يكبر طبيعيا، فقانونهم الجديد كفيل ان يتعامل معه كبالغ، ويقبع في السجن سنوات، لم يسمعوا صوته الصغير، لم يروا طفولته وأحلامه الجميلة، رأوه سكينا او حجرا او طوفانا، ومنه يتقرر مصير أرض الميعاد.
أحمد مناصرة لم يعد طفلا منذ الآن... وذلك المحقق ليس عنده أطفال، بل بنادق واسلحة وصور لمن عذبهم ودعس على رؤوسهم وانتزع اعترافات منهم بالقوة والتهديد، وعنده أوسمة عديدة بحجم من أعدم من الأطفال في المظاهرات وعلى الحواجز، وبحجم عدد من دمرهم في الزنازين وأقبية الظلام.
أحمد مناصرة لم يعد طفلا منذ الآن، ضرب واعتقل في دولة مجنونة مهووسة مصابة برهاب الحجر والأغنية والولادات الكثيرة لأطفال فلسطين، دولة جردتها الحروب من ذاتها الانسانية والأخلاق، وصعدت فوق مدافعها وطائراتها تصطاد البشر الذين يثبتون الجدارة على الحياة.
أحمد مناصرة لم يعد طفلا منذ الآن، المحقق يشتم ويصرخ، يثير الشفقة، فخلف الأبواب المغلقة مئات الأطفال المعتقلين والمصابين والمصدومين، وخلف الأبواب المغلقة جيل من الفتيان ولدوا أمام الجدار، عند الحواجز وتحت وقع الرصاص وقصف المدرعة، تجرعوا الغاز السام وساروا في كل جنازة ، أطفال يولدون ومعهم قنابل أحلامهم ونعوشهم الصغيرة.
أحمد مناصرة لم يعد طفلا منذ الآن، تجاوز الفخ السياسي وحدود المستوطنة، تجاوز عمره ورغوة الحليب، يبحث عن ملعب وبحر وسماء غير مسيجة، ركض في شوارع القدس من صلاة الى صلاة، ومن مذبحة الى مذبحة، هو لا يطلب النجاة، المحقق المتوتر يزعق خوفا، ويستنجد بالقاضي والمحكمة.
أحمد مناصرة لم يعد طفلا منذ الآن، والذي أمامه يمثل دولة ناكرة انها دولة محتلة، تحشوا مناهجها التربوية والتعليمية بالبارود، وتفخخ عقول تلاميذها بالنار والكراهية للآخرين ، انه التطرف والعنصرية التي لا ترى أطفالا في العالم، دولة لا سلام في مدرستها ولا قانون ولا ذاكرة.
أحمد مناصرة لم يعد طفلا منذ الآن، فالمحقق يعيش في دولة خوف اليهود كما قال الصحفي الاسرائيلي ناحوم بارينع، والى الأبد ستعيش على حدّ السيف والحراب كما قال نتنياهو، لم يتصالح الثقافي مع السياسي في دولة اسرائيل ، ظل الأول مشحونا بذاكرة المنفى والإقصاء محبوسا في غيتو المحاربين فوق الأبراج ، داخل دائرة القنص والقتل، لا يمد الثاني الا بالبزة العسكرية ومفاتيح السجون وأناشيد حرس الحدود.
أحمد مناصرة لم يعد طفلا منذ الآن، لم يرتجف الضمير الانساني في اسرائيل أمام مشاهد اعتقال القاصرين الأطفال والاعتداء عليهم بطرق وحشية جسديا ونفسيا، ولم يسألوا انفسهم لماذا لا يبتسم أطفال فلسطين؟؟ لا ينامون، ينفجر نعاسهم فزعا وصرخات.
أحمد مناصرة لم يعد طفلا منذ الآن، ان تكون مقدسيا هذه الأيام، يعني ان تحمل روحك على كفيك كلما انطلقت من بيتك، حياتك رهن اشارة إصبع لجندي او مستوطن او حاخام، الضغط على الزناد ، الضرب والركل والاحتفال بالموت.
أحمد مناصرة لم يعد طفلا منذ الآن، لأن دولة اسرائيل غيرت نصوص وأحكام القانون الدولي والاتفاقية العالمية لحقوق الأطفال، فتحت سجن جفعون للقاصرين، حشدت المئات في عوفر ومجدو وعصيون وحوارة، اطلقت الكلاب عليهم، شبحتهم في البرد الشديد، فقدت توازنها عندما أصيب المحقق بهذيان وهو يصرخ: السكين السكين.
أحمد مناصرة لم يعد طفلا منذ الآن، فالولد (مخرب) ويجب قتله، هكذا بدأت الحملة التحريضية الاسرائيلية على الفلسطينيين، وزير التربية الاسرائيلي حمل مسدسه وخرج الى الشوارع، ووسائل الإعلام الاسرائيلية عرضت لعبة لتعليم الاطفال على كيفية قتل ومحاربة (المخربين ) الفلسطينيين ، انهم ينشئون جيلا من القتلة ، لا حب ولا سلام ولا رحمة.
أحمد مناصرة لم يعد طفلا منذ الآن... اعتقلوه في المجتمع الاسرائيلي الديمقراطي، فوجد انهم فقدوا توازنهم في التشريع والعقاب وفي أوامر اطلاق النار والاعتقالات، ووجد ان العنصرية عندهم متغلغلة في الخطاب والسلوك، في البيت واللغة، لا مجتمع مدني في اسرائيل، استنفار وتحشيد وتجنيد ومعركة.
أحمد مناصرة لم يعد طفلا منذ الآن، كل جندي ومستوطن وقاضٍ أصبح جلادا ومحكمة، لهذا اعتقلوا اكثر من الف طفل منذ بداية شهر اكتوبر الماضي، وأصدروا اوامر اعتقال اداري بحق اطفال قاصرين، وجربوا على أجسادهم كل صنوف التعذيب، لم يسمعوا منهم سوى صوت رعد أو مقلاعا او حجارة.
أحمد مناصرة لم يعد طفلا منذ الآن، صار قنبلة موقوتة في عرف جهاز المخابرات الاسرائيلي التي تعتقل الناس على أحلامهم، يقصفون اجنحة الملائكة، يطاردون طفل المغارة في السهول والبراري، يطفئون أضواء الشجرة ويدوسون ساحة الميلاد، يطلقون النار على حمامتين وغيمتين فوق الصليب.
أحمد مناصرة لم يعد طفلا منذ الآن، لا أم ولا أب ولا أصدقاء، وحده في الزنزانة، ووحده أمام هذا المحقق المتشنج المشبع بالكراهية للأغيار، الأعمى بالخرافات والأساطير، وقد صار آلة في دولة اسرائيل، وصيادا ماهرا يجيد انتزاع الاعترافات من الصغار.
بقلم عيسى قراقع
رئيس هيئة شؤون الاسرى والمحررين