حرب وطفوله 2

سألَت سناء : ألا تذكر ما جرى من أحداث ، بعد عودتكم إلى البيت ؟ . أجبت : لا أذكر تفاصيل كثيرة عن الأحداث التي جرت في تلك الأيام ، ولكنني أتذكر أن جنود الاحتلال جاءوا إلى قريتنا ، وتجولوا في حارتنا ، فيما كان المواطنون ملتزمين في بيوتهم ، لا يغادرونها . وذات يوم ، دخلت مجموعة من الجنود الغرباء بيتنا ، وكانوا يلبسون قبعاتٍ على رؤوسهم ، ويحملون سلاحا كثيرا ، وكان أحدهم يحمل أوراقا وأقلاما ، ويكتب على الورق . وكانوا يسألون أبي عن أسماء أفراد أسرتنا ، وعلمت فيما بعد أنهم يريدون إحصاء المقيمين في القرية ، والغائبين عنها . وقد كان أخوتي موجودين معنا ما عدا اثنين ، الأخ الأكبر كان يعمل في عمان ، والأخ الأصغر كان يدرس في جامعة دمشق ، وقد حرم المحتلون أخي الأول من العودة إلينا ، أما الثاني فقد التحق بالعائلة بعد انتهاء دراسته ، وحصوله على ما سمي ( لم شمل العائلات ) .

وبعد عدة أيام ذهبت مع أبي إلى حقلنا الذي كان مزروعا بالبطيخ ، فوجدنا ثمار البطيخ قد هُشمت، تحت عجلات جنازير الدبابات . ضرب أبي كفا بكف وقال بحزن : جازى الله من كان السبب !! . وذهبت ذات يوم إلى المدينة المجاورة ، فرأيت هناك جنودا غرباء ، يتجولون على أقدامهم ، وفي سيارات متجهمة غريبة الأشكال والأنواع والأحجام ، فشعرت بالخوف ، والتصقت بأبي الحنون الذي احتضنني ، وقال لي مشجعا : لا تخف .

سأل عمرو : قلت بأن جدك ظل في البيت ، ولم يهرب إلى الجبال ، فلماذا ؟! . أجبت : كان جدي مقتنعا بأن الهروب لا يمنع القدر المكتوب ، وفضل البقاء في البيت ؛ لحمايته والثبات فيه بدلا من التشرد والضياع . كان يقول : لا يجوز للإنسان أن يترك بيته ويهاجر، ويكفي ما حدث لنا عام ثمانية وأربعين ، وعلينا أن نستفيد من أخطائنا .

قال أحمد : حدثنا عن جدك وذكرياتك معه . عدت بذاكرتي سنوات طويلة إلى الوراء ، واستحضرت صورة جدي . كان لون بشرته شبيها بلون حبوب القمح التي كان يذريها في البيدر ؛ ليفصلها عن التبن . جبهته مغضنة ، والتجاعيد تملأ وجنتيه ، وما أجمل وجهه حينما كانت تنفرج أساريره ، ويضحك بصوت عالٍ !! . كان ينهض من نومه كل يوم مبكرا ، فيصلي الصبح ، ويفطر ثم يركب حماره ، وينطلق إلى أرضنا الجبلية ، حيث يمضي بعضا من الوقت، في استصلاح الأرض، وزراعة الأشجار ، وتقليمها ، وإزالة الأشواك والأعشاب من تحتها، بفأسه الذي ما زلنا نحتفظ به حتى الآن . وبعيد الظهر كان يعود إلى البيت، والخُرج مليء بالأعشاب والخروب واللوز ونبات الزعتر والميرمية والزعيت ماني ، وما أن يصل إلى البيت ، حتى يطلب الإسراع في غلي الشاي . وما ألذ شرب الشاي مع جدي ، وما أعذب مذاقه !! .

وفي ظهيرة أحد الأيام الصيفية الحارة ، كان جدي نائما في عقده الواسع ، فتوجهت نحوه ؛ لأسأله عن قبعتي القشّية التي كنت أحمي رأسي فيها من حرارة الشمس ، ولكنه لم يرد عليّ . صحت : جدي .. جدي . ولكنه لم يجب ندائي ، بل اكتفى بهز رأسه ويده !! . أسرعت نحو أبي وصرخت : أبي .. أبي ، جدي لا يتكلم !! . نهض أبي بسرعة ، وتوجه نحو جدي ، فوجده مريضا ، وغير قادر على النطق . أحضرنا الطبيب ، وقدم له الدواء ، ولكن الطب لم يتمكن من إعادة العافية والصوت إلى جدي الحبيب . بكيت ، ولم أعد أسمع صوته ، وكان يكتفي بالنظر إلينا ، وحينما يسمع نهيق حماره ، كان يهز يده ، فيعرف أبي أن الجد يطلب منا سقاية الحمار أو إطعامه ، فربما كان جائعا أو عطشان !! . وظل جدي مريضا إلى أن وافاه الأجل المحتوم . وكم عز ّ علينا فراقه ، وتألمنا لرحيله الأبدي !! .

يتبع
ذكرى استشهاد ياسر عرفات

حكمــــــــة اليــــــــــــوم

عالم الأشبال
Developed by MONGID DESIGNS جميع الحقوق محفوظة لـمؤسسة الأشبال والزهرات © 2024