حرب وطفوله 1

في صباح يوم الأحد ، وبعيد تناول الفطور ، سألت أطفالي : من يذكر تاريخ هذا اليوم ؟ . قال أحمد : الخامس من حزيران / 2011م . قلت : هذا صحيح ، ولكن ما المناسبة التي تصادف في هذا اليوم ؟ . فكر أطفالي ، واسترجعوا تواريخ ميلاد أفراد الأسرة ، والمناسبات المتنوعة التي مرت في حياتهم ، دون أن يهتدوا إلى الإجابة الصحيحة . فسألوا : ما المناسبة التي تتحدث عنها ؟ . قلت لهم : ألم تقرؤوا في كتابي التاريخ والتربية الوطنية ، أن الخامس من حزيران عام 1967م يصادف ... وتابعوا معا ، وبصوت واحد : هزيمة حزيران، واحتلال ما تبقى من فلسطين، وأجزاء من بعض البلاد العربية المجاورة !! . قلت : أحسنتم ، فها أنتم تتذكرون ما تدرسونه في الكتب المدرسية . قال عمرو الذي يحب الحساب ، وجمع الأرقام وطرحها وتحليلها : هذا يعني أن هذه الحرب وقعت قبل أربعة وأربعين عاما . وكان عمرك حوالي خمس سنوات. وعقب طارق : كنت في مثل عمري الآن !! . أجبت مؤكدا : هذا صحيح . سألت أختهم سناء : ألا تذكر ، يا أبي ، أحداث ذلك اليوم ؟ حدثنا عنها . أجبت ، وقد عدت بذاكرتي سنوات طويلة ، إلى ذلك الطفل الصغير الغرير الذي كنته ، حيث لم أكن أعي كثيرا من الأمور التي تجري أمام عيني ، ولكنني أذكر بعضا من المشاهد والأحداث التي جرت صباح ذلك اليوم الموغل في البعد .

كنت صبيحة ذلك اليوم في مرجنا المزروع بالبطيخ مع أخي الكبير ، ورأيت رجالا يحفرون الخنادق ، والعرق ينز من جباههم ، وكنت أسمع صافرة تطلق صفيرا عاليا ومتتابعا ، فقال أخي : هذه صافرة الإنذار والحرب . هيا بنا نذهب إلى بيتنا بسرعة . أمسك أخي الكبير بيدي ، وتوجهنا نحو بيتنا مسرعين . وصلنا البيت ، فوجدت أمي وأبي وبقية أفراد الأسرة يستعدون ، للمغادرة على عجل . ولا أدري كيف تشتت أسرتي ، فقد وجدت نفسي أسير مع أبي ومجموعة من الأطفال والشباب ، في طريق مليئة بالحجارة تؤدي إلى سفح جبل مزروع بالأشجار الخضراء ، فيما كان الخروف الصغير يتبعنا أنّى ذهبنا . كنت أسمع صوت طائرات تحوم في الفضاء ، وأصوات إطلاق القذائف ، وأزيز رصاص يأتي من بعيد . وصلنا مغارة في الجبل ، أطل أبي من بابها ، فعرف مجموعةً من أهل القرية المختبئين في داخلها ، ألقى السلام ، وطلب من الأطفال الدخول ، ثم دخلت والخروف الصغير مع أبي . لم أكن خائفا ، ولم أقدِّر المخاطر التي تنتظرنا ، فقد كنت أشعر ، وأنا في حضن والدي بالحنان والاطمئنان . كان الموجودون في المغارة يتحدثون بصوت منخفض ، ويطلبون من الأطفال عدم الصراخ أو رفع الأصوات . ولا أدري ما حدث بعد ذلك ؛ لأنني نمت نوما عميقا في حضن أبي ،والخروف الأليف إلى جانبي ، من الجهة الأخرى .

في الصباح أفقت من نومي ، وخرجنا ، فلمحت شجرة رمان تقف أمام المغارة ، وكلما كنت أرى شجرة رمان بعد ذلك أتذكر ذلك الموقف . وانتقلنا عبر الجبال والوديان إلى مغارة أخرى قريبة من القرية ، وهناك وجدنا أعدادا كبيرة من النساء والأطفال والرجال الذين نعرفهم ، ولكن أمي وبقية أفراد أسرتي لم يكونوا موجودين معنا ، فسألت أبي : أين أمي وأخوتي وجدي وجدتي ؟ . أجاب أبي : لا أعرف . كنت أنظر في وجهه ، فأراه حزينا . ومضت عدة أيام ، ونحن موجودون في المغارة ، وكان الأطفال يستغلون الوقت الذي لا تحلق فيه الطائرات في السماء الزرقاء ، فيخرجون ، ويركضون ويلعبون ، وحينما كانوا يسمعون هدير الطائرات ، ينطلقون ركضا نحو المغارة .

ذات يوم ، قرر الناس المختبئون في المغارة العودة إلى بيوتهم ، ففرح الأطفال وراحوا يصفقون ويتغنون :
ع الترويحة يا مليحة شمة ريحة للعرسان ...

عدنا إلى بيتنا الحبيب . كان جدي نائما في العقد الكبير . سأله أبي : أين ذهبت ؟ . قال : بقيت في المرج جالسا تحت الزيتونة ، فجاء جنود الاحتلال ، وسألوني : لماذا تجلس هنا ؟ فأجبتهم : إنني جالس في أرضي ؛ لأحميها ، وأعتني بها . وطلبوا مني الذهاب إلى البيت . وقررت الإقامة في بيتي ، وعدم الهروب منه . قلقنا على أمي وبقية الأسرة ، وما هي إلا لحظات ، حتى حضرت أمي وجدتي وأخوتي . فرحت كثيرا بعودتهم سالمين ، فأسرعت إلى أمي الحنون ، وألقيت جسمي الصغير في حضنها الدافئ ، فطوقتني بيديها الكريمتين ، وأمطرتني بقبلات المحبة والحنان ... . يتبع .
ذكرى استشهاد ياسر عرفات

حكمــــــــة اليــــــــــــوم

عالم الأشبال
Developed by MONGID DESIGNS جميع الحقوق محفوظة لـمؤسسة الأشبال والزهرات © 2024