حرب طفوله3

قالت سناء : ذكرت يا أبي أن أمك وجدتك وأختك عُدنَ إلى البيت سالمات ، بعد قلق جدي عليهن ، وخوفه الشديد من تعرضهن لمكروه في الحرب . فهل لك أن توضح لنا الأمر أكثر ؟. قلت : نعم . عندما كبرت كنت أستمع لأحاديث الكبار ، وذكرياتهم عن حزيران ، وسردهم لحكاياتهم والمشاهد التي رأوها في الواقع ، أو تلك التي نسجتها خيالاتهم وأوهامهم وتصوراتهم . تعرفون أن العربي يحافظ على عِرضه وشرفه ، وهذه قيمة مجتمعية رائعة وأصيلة ، ولكنَّ هنالك أناسا يفكرون بطريقة خاطئة ، فيبررون رحيلهم ، وهروبهم عن أرضهم ، بالحفاظ على العِرض ، ونسوا أن الأرض والعِرض لا ينفصلان ، وأن شرف الإنسان يكمن في المحافظة عليهما ، والدفاع عنهما معا ، والتضحية من أجلهما .

أعود إلى سؤالك ، وأقول : في الحرب تكثر الشائعات ؛ بسبب الجهل والخوف . وما أن عدنا إلى بيتنا ، حتى جاءنا قريب لنا ، عزيز علينا . قال لأبي، والحزن بادٍ على محياه : والله ، يا خالي ، لا أعرف كيف أقول لك هذا الخبر ...!! . أجابه أبي : لا تتردد . قل . قال قريبنا : وأنا هارب في الوعر ، وأتنقل من وادٍ إلى جبل، رأيت جثثا كثيرة لأهالي قريتنا ملقاة هنا وهناك..و... من ضمنهم زوجتك وبنتك و... . صرخ أبي : أأنت رأيت بعينيك ؟ . أجاب مؤكدا : نعم . بعينيّ هاتين . وأشار لعينيه . وما أن أتم كلامه ، حتى رأينا أمي وجدتي وأختي قادمات بسلام نحو البيت من منعطف قريب .
صاح أبي فرحا مستبشرا : تقول يا رجل رأيت . انظر ها هن قادمات دون أن يصيبهن مكروه !! . قال قريبنا : الحمد لله على السلامة ، لا أدري ماذا حدث معي ، هل أنا عاقل أم مجنون ؟ . هل أنا نائم أم صاح ٍ ؟! .

ضحك الحاضرون جميعهم ، وانهمكوا بالترحيب بالقادمات ، وهنئوهن بالسلامة ، وأكدن أنهن لم يتعرضن لأي أذى . ودخل الأهل والأقارب إلى بيتنا ، وراحوا يتندرون على قريبنا ، ويضحكون ، فيما استقبل ضحكاتهم بروح من الدعابة والمرح ، وقال : إذا أردتم أن تضحكوا أكثر ، فاستمعوا إليّ . قال الحاضرون : احك ، وكلنا نستمع .

قال قريبنا : حينما بدأت الحرب ، لم يكن قد مضى على زواجي عام ، وقد قلت لزوجتي : أنا خائف عليك، وعلى طفلنا الرضيع ، وأخشى أن يعتدي عليكما المحتلون ، فما رأيك أن أتخلص منكما ؟ . فقالت زوجتي : يبدو أن الخوف أصابك بالتهور والجنون . كبِّر عقلك يا رجل . وتوكل على الله . نحن لسنا أحسن من الناس ، وما يصيبهم يصيبنا . قال الحاضرون : الحمد لله أن زوجتك أعقل منك . أجاب وهو يبتسم : أي والله ، زوجتي أثبتت أنها أعقل مني .

قالت أمي : شر البلية ما يضحك . أنصتوا إلى هذه الحكاية . بينما كنا مختبئين في المغارة ،نساء ورجالا وأطفالا ، دخل علينا رجل خائف مع زوجته وأطفاله الصغار ، وكان هنالك قِنٌ للدجاج في المغارة الواسعة ، فما كان من الرجل إلا أن فتح باب القن، وراح يدفع زوجته وأطفاله إلى داخله ، وسط ذهول الموجودين . ضحك الحاضرون وعلقوا قائلين : وهل سيوفر قن الدجاج الأمن والحماية ؟! . قال آخر : عثرت، وأنا هارب ليلا على صخرة تحتها فجوة أدخلتُ جسمي فيها ، واختبأت حابسا أنفاسي ، ومرت ساعة من الزمن ، وإذ بخطواتٍ ثقيلة تدب على الصخرة ، تجمّدت في مكاني ، وقلتُ في نفسي : سأودع روحي بعد قليل ، وتشهّدتُ ، ثم تبين لي بعد ذلك أن حمارا كان يتحرك بالقرب من المكان !! .

وقص آخرُ مفتخرا : أنا لم أكن خائفا ، وقد تسللتُ أكثر من مرة نحو بيتنا ؛ لإحضار الطعام والشراب . وتنحنح خالي وقال : تعرفون أن بيتنا يطل على الشارع الرئيس للقرية ، وبينما كنت جالسا في العقد ، وأستمع للإذاعة التي كانت تصدح بالأناشيد الحماسية ، والبلاغات العسكرية ، سمعت صَخَبا وخطواتٍ تدبّ في الشارع . فتحتُ الباب وإذا بجنودٍ مسلحين ، فحسبتهم إخوانا لنا فصحت : عاش النشامى .. الله ينصركم !! . فما كان من أحدهم إلا أن صرخ بي بلهجة غريبة: روخ للبيت ...!! . امتقع وجهي بالسواد ، وجفّ حلقي ، وأغلقتُ الباب ، وعدتُ بأقدامٍ خائرة إلى العقد، والمذياع الذي كان يواصل الإعلان عن الانتصارات الوهمية ، وبث الأناشيد الحماسية . أغلقتُ المذياع ، ورحت أستعد لمواجهة الحقيقة المرة التي رأيتها بعينيّ !! . يتبع.
ذكرى استشهاد ياسر عرفات

حكمــــــــة اليــــــــــــوم

عالم الأشبال
Developed by MONGID DESIGNS جميع الحقوق محفوظة لـمؤسسة الأشبال والزهرات © 2024